" /> "/>
 

نظرات في تعامل الإمام الطبراني مع التفرد من خلال كتابه المعجم الأوسط

الايضاح 2023-06-15

نظرات في تعامل الإمام الطبراني مع التفرد في الحديث من خلال كتابه المعجم الأوسط نور الحق * أ.د. فتح الرحمن القرشي** An overview on Imam Tabrani dealing with “Tafarud” in his book Al Mujam-ul-Awsat The essence of the Hadith of the Holy Prophet (S.AW) is its fame. When there is Tafarud in a Hadith, the scholars scrutinize it with great concern to detect whether Tafarud is incidental or the Ravi has committed some mistake. The status of the Hadith is established on the basis of Tafarud. There is no specific rule or formula for it, rather every Tafarud is decided permanently on the basis of circumstances. In this paper I have mentioned Imam Tabrani way of Tafarud. I have explained different forms of Tafarud in his book Al Mujam-ul- Awsat. I have also explained with example that Tafarud is accepted sometimes wile rejected at others. Key Notes: Hadith, Ta’farrud, Ilal ul Hadith, Taypes of Ta’farrud, Laws of Ta’farrud, Rule of Ta’farrud, Tabrani. * باحث بمرحلة الدكتوراه، قسم الحديث وعلومه، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية العالمية إسلام آباد. **بروفسير، (approved supervisor)، رئيس قسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين-الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد. الحمد لله الذي جعل لنا سهما في خدمة السنة، والصلاة والسلام على من جُعل أسوة للأمة. أما بعد: فإن علوم الحديث من أفضل العلوم بعد علوم القرآن، لأنه تم به حفظ الدين الإسلامي من التحريف والتبديل، ومن أهم علوم الحديث علم علل الحديث، وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم، وعلة الحديث يكثر في أحاديث الثقات، وهذا العلم لا يحصل إلا بجمع الطرق واستيعاب الرواة، ويستعان على إدراك العلة بتفرد الرواة، والتفرد أحد الوسائل للكشف عما في الأحاديث من العلل، وأوهام الثقات، فنجد المتقدمين من العلماء كثيرا يعلون الأحاديث بالغرابة، وعدم المتابعات، ومشى منهجهم الإمام الطبراني في تعليل الأحاديث بتفرد الرواة، وخاصة في كتابه المعجم الأوسط، الذي جمع فيه تفردات شيوخه، وينص على غرابتها، وموضوع التفرد فيها. لكن التفرد ليس بعلة في حد ذاته، بل يكشف عن العلة، فقمت بدراسة نظرات في تعامل الطبراني مع التفرد في الحديث في كتابه المعجم الأوسط، لأظهر منهجه في تعليل الحديث بالتفرد، وهل كل ما ذكر فيه التفرد فهو مردود؟، أم يوجد فيه ما يحتج به مع وجود التفرد؟ وقسمت البحث في هذا الموضوع إلى تمهيد وثلاثة مباحث. والتمهيد هو يشتمل على ترجمة الطبراني، والتعريف على كتابه المعجم الأوسط. المبحث الأول: التفرد عند المحدثين المبحث الثاني: منهج الطبراني في بيان التفرد في الحديث من خلال كتابه العجم الأوسط المبحث الثالث: حكم التفرد الذي وقع في المعجم الأوسط للطبراني. التمهيد نبذة مختصرة عن ترجمة الإمام الطبراني والتعريف بكتابه المعجم الأوسط إن الإمام الطبراني هو سليمان بن أحمد، ولد بمدينة عكا في شهر صفر سنة ستين ومائتين، وخرج من الشام في طلب علم الحديث وسافر البلاد، ومكث خارج البلد ثلاثا وثلاثين سنة ، روى عن: أبي زرعة، وإسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن عبد الوهاب الحوطي، وخلق كثير غيرهم ، وروى عنه ابن مردويه، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد– وهو روى عنه الكبير والصغير. وله مصنفات كثيرة، وانتشرت تصانيفه في البلاد، لكن أشهر كتبه معاجمه الثلاثة: "الكبير" و "الأوسط" و "الصغير" . وكتابه المعجم الأوسط دوّنه على معجم شيوخه، وأورد فيه الغرائب والفرائد عن كل شيخ، وهو مثل "الأفراد" للدار قطني، ويعد مصدرا أساسيا لعلل الحديث؛ لأنه جمع فيه الأحاديث الغريبة، ونص على غرابتها وموضوع التفرد أو المخالفة فيها. وعدد أحاديثه (9489) حديثا، ويشتمل على كثير من الزوائد على الكتب الستة، ويظهر منه مكانة الطبراني في سعة علمه، وأسأل الله أن يجزيه خير الجزاء. المبحث الأول: تعريف التفرد لغةً: التفرد مصدر من "تَفرّد" تفرد بالأمر: انفَرد، أفرد بالأمر: كان فِيه فَرْداً لا نَظِيرَ لَهُ، قال ابن فارس : "فرد: الفاء والراء والدال أصل صحيح يدل على وحدة، من ذلك: الفرد هو الوتر". وقال ابن منظور : "الفرد: الذي لا نظير له". فالفرد: مصدر يدل على الوحدة وعدم النظير. اصطلاحا: عرّف الميانشي بأن الفرد: "ما انفرد بروايته بعض الثقات عن شيخه، دون سائر الرُّوَاة عن ذَلِكَ الشيخ". فالتفرد في تعريف الميانشي خاص بتفرد ثقة عن شيخه، وأما تفرد الضعفاء فلم يدخل تحت تعريف التفرد عند الميانشي، وكذا هذا التعريف لأحد قسمي التفرد، لأن التفرد في أصل الإسناد لم يتعرض له. وعرف الذهبي التفرد: "ما انفرد به الراوي إسنادا أو متنا، أو ما تفرد به عن شيخ معين" . فهذا التعريف أعم من تعريف الميانشي؛ لأنه ذكر "الراوي" والراوي قد يكون ثقة، وقد يكون ضعيفاً، فهو شامل لتفرد الضعيف، وكذا ذكر "إسنادا أو متنا" فيدخل فيه التفرد في سند الحديث، كان أو متن الحديث. وقال نور الدين عتر : "هو ما تفرد به راويه بأي وجه من وجوه التفرد" . فهذا التعريف جامع لجميع انواع التفرد، نسبيا كان أو مطلقاً، وسواء كان في السند، أو في متن الحديث. وأما الطبراني فلم أجد عنده تعريف اصطلاحي لكلمة التفرد، لكن تطبيقات هذا الموضوع في أثناء كتابه المعجم الأوسط مثلاً لم يروه إلا فلان"، أو " لم يروه عن فلان إلا فلان"، أو "تفرد به فلان"، أو " غريب من حديث فلان"، أو "لم يروه عن فلان إلا فلان، تفرد به فلان، ورواه الناس عن فلان"، تدل على أن التفرد عنده: "ما يأتي من طريق راوٍ واحدٍ، سواء كان بأصل الحديث أو بجزء منه، مع المخالفة أو دونها، ثقة ضابطاً كان الرَّاوي أو دون ذلك. وهذه التعريفات قد جمعت بين المعنى اللغوي وبين حقيقة التفرد عند المحدثين، والحديث الذي يوجد فيه التفرد يقال له: الغريب أو الفرد، وأهل الاصطلاح من حيث إطلاق الاسم على الفرد والغريب فرقوا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته، هم يطلقون الغريب على الفرد النسبي، يقولون مثلا: غريب من هذا الوجه، ويطلقون الفرد على الفرد المطلق، لكن من حيث استعمالهم الفعل المشتق لا يغايرون بين الفرد والغريب، وهم يقولون في المطلق والنسبي كليهما: "تفرد به فلان"، و"أغرب به فلان" . المبحث الثاني: منهج الطبراني في بيان التفرد في الحديث إن الإمام الطبراني جمع في كتابه غرائب شيوخه من المرفوعات والموقوفات والمقطوعات، ويذكر تفرد الرواة، سواء كان هذا تفرد الثقة، أو تفرد الضعيف، سواء مقبولا كان هذا التفرد أم مردودا، فهو يذكر التفرد، وينص على موضع الغرابة، ولا يحكم على الحديث، ومن المعلوم أن التفرد ليس بعلة في ذاته، بل هو كاشف عن العلة، يدرك به العلة إذا انضم إليه قرائن أخرى، مثلا وجود المخالفة، واستمراره في طبقات متأخرة، وتفرده عن شيخ مكثر، وغيرها من القرائن. وكذا لا يبين نوع التفرد من أي قسم هذا؟، لكن أحيانا يفهم نوع التفرد من استعمال صيغه لبيان التفرد، مثلا إذا كان التفرد في أصل السند فيفهم من كلامه، وإن كان التفرد من أقسام التفرد النسبي فلا يفرق بين صور التفرد النسبي في كلامه عقب إيراد الحديث، مثلا يقول: "لم يروه عن فلان إلا فلان، تفرد به فلان" إلا إذا كان فيه مخالفة فيذكر من خالفه من الرواة، وينص على موضع المخالفة. فأذكر بعض أنواع التفرد من كتابه المعجم الأوسط، ليتضح منهجه في ذكر الغرائب والتفرد في كتابه. أولا: التفرد المطلق هو التفرد في أصل الحديث، بأن لا يعرف الحديث إلا من هذا الطريق، ولا يكون له متابع. يعني يرويه تابعي واحد عن صحابي، ولا يتابعه غيره من التابعين عن ذلك الصحابي، سواء تعدد الصحابي أم لا، لأن تفرد الصحابي لا يعد غرابة، لأن المقصود من التفرد ما يترتب عليه من الحكم، والصحابة كلهم عدول، ثم هذا التفرد قد يستمر حتى إلى طبقات متأخرة . والإمام الطبراني حينما يذكر التفرد المطلق، فيرد الحديث الفرد، ثم يعقبه بقوله: " لا يروى عن فلان (يذكر اسم الصحابي) إلا بهذا الإسناد، ثم يذكر الراوي الذي تفرد به، في أي طبقة كان. مثاله: حديث أبي هريرة مرفوعاً "مثل بلال كمثل نحلة..." . وقال الطبراني بعد إيراد الحديث: لا يروى هذا الحديث عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، تفرد به يحيى بن أبي أيوب. فيفهم من كلامه بأنه يشير إلى أن الغرابة في أصل سنده. والحديث أخرجه الحكيم الترمذي ذكره في نوادر الأصول (2/319)، وأبو الشيخ الأصبهاني في أمثال الحديث (359)، وابن عساكر (10/465 رقم 2669) من طريق ابن أبي أيوب بهذا الإسناد، ولم أجده بغير هذا، فتعين أن الغرابة في أصل السند، واستمر التفرد فيه إلي يحيى بن أبي أيوب. ثانياً: التفرد النسبي: هو التفرد الواقع في أثناء السند، بأن الحديث روى في أصل السند من غير وجهٍ، لكن وقع التفرد في أثنائه بنسبة شخص معين. وذكر له المحدثون صوراً كثيرة، لكن أذكر بعض ما اطلعت عليه في المعجم الأوسط. 1- أن ينفرد الراوي بزيادة في سند الحديث. وهو أن يكون الحديث مرويا عن شيخ بطرق كثيرة، لكن أحد من تلاميذه يزيد في سنده شخصاً لم يزده الآخرون من تلاميذ هذا الشيخ، فهذا نوع فيه المخالفة بزيادة راو في الإسناد، فيذكر الإمام الطبراني الحديث ثم يذكر موضع التفرد، أو موضع المخالفة، وينص على من تفرد به، وأحياناً يذكر الإسناد المحفوظ عنده. كما أخرج حديث رافع بن خديج "نهانا (رسول الله) أن نتقبل الأرض ببعض خراجها أو بورق منقودة" ثم بين الاختلاف فيه، وقال بعده: "لم يرو هذا الحديث عن أبي حصين، عن مجاهد، عن ابن رافع إلا أبو عوانة، تفرد به: محمد عيسى. ورواه أبو بكر بن عياش وغيره: عن أبي حصين عن مجاهد، عن رافع نفسه". فيعرف من كلام الطبراني أن الحديث غريب بهذا الإسناد، لأن الحديث رواه محمد بن عيسى عن أبي عوانة فزاد فيه رجلا وهو ابن رافع، ورواه أبو بكر بن عياش وغيره عن أبي عوانة فليس فيه ابن رافع. ثم تبين لي أن مدار الإسناد علي أبي عوانة، رواه شريك عن أبي عوانة، كما أخرجه الإمام أحمد (17264) فلم يذكر فيه "ابن رافع". وتابعه أبوبكر بن عياش عن أبي عوانة، أخرجه الترمذي (1384). ورواه محمد بن عيسى عن أبي عوانة عن أبي حصين عن مجاهد عن ابن رافع عن رافع، فزاد فيه ابن رافع. كما ذكره الطبراني في الأوسط رقم (395). ولم يتابعه أحد على هذه الزيادة، فذكر الطبراني الإسناد الغريب، ونص على من تفرد به، ومع ذلك ذكر الإسناد المحفوظ، ووضح موضع الزيادة والمخالفة في الإسناد. 2- أن ينفرد الراوي بزيادة في متن الحديث. هو أن يروي الحديث عن شيخ أكثر من راوٍ، لكن يزيد في متنه بعض رواته ما لم يزده غيره من تلاميذ هذا الشيخ. والإمام الطبراني في هذا النوع من التفرد يذكر الراوي المتفرد بهذه الزيادة، لكن لا يذكر موضع التفرد في المتن. مثاله: حديث ابن عباس قال: "كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض، مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله". أخرجه الإمام الطبراني في المعجم الأوسط برقم 219، وقال عقبه: "لا يروى هذا الحديث عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، تفرد به: حيان بن عبيد الله". قلت: الإسناد يدور علي أبي مجلز، رواه يزيد بن حيان عنه (أبي مجلز) فليس فيه قوله: "مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله". كما أخرجه الترمذي في جامعه برقم (1681)، وابن ماجه في سننه برقم (2818). ورواه حيان بن عبيد الله عن أبي مجلز فزاد فيه هذا القول "مكتوب عليه..." ومن أجل هذه الزيادة في المتن أعله الطبراني بالتفرد، ونص على تفرد حيان، وأتي بصيغة يأتي بها عامة لبيان التفرد في أصل السند كما مر في مثال الغريب المطلق، وليس في هذا الحديث التفرد في أصل السند بل هو النسبي، ولم يذكر الطبراني أن في المتن زيادة، لكن يمكن القول لنا أن الطبراني يريد بهذه العبارة أن الحديث مع هذه الزيادة لا يروى إلا بهذا الإسناد، تفرد به حيان بن عبيد الله. ومنه أن يكون الحديث مشهورا عن شيخ بألفاظ ثم يأتي أحد من تلاميذه فيزيد في متنه مخالفا لما رواه الآخرون. ككلمة "بورق منقودة" في حديث رافع بن خديج. قلت: مدار إسناد الحديث علي أبي عوانة، أخرجه الطبراني برقم (395) من طريق محمد بن عيسى عن أبي عوانة حديث رافع قال: "نهانا (رسول الله) أن نتقبل الأرض ببعض خراجها أو بورق منقودة". ففي هذا الحديث كلمة "بورق منقودة" شاذة، لم يذكرها غيره من الرواة. ورواه قتيبة بن سعيد، عن أبي عوانة،كما أخرجه النسائي (3868)، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه برقم (21251) من طريق أبي بكر بن عياش عنه (أبي عوانة)، ولم يذكرا فيه هذه الكلمة. وقد رواه حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج، ففيه " أَمَّا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. كما أخرجه مسلم في صحيحه 115 - (1547). ولأجل هذا حكم الألباني بنكارة هذه الكلمة . فكلمة "بورق منقودة" تفرد به الراوي، ومع ذلك هي مخالفة لما صح في حديث رافع بن خديج بسند آخر. لكن لم يذكر الإمام الطبراني هذه الزيادة صراحةً، ولا إشارةً، واكتفى بذكر تفرد الراوي في سند الحديث، وكلام الطبراني على هذا الحديث قدتقدم ص 6، تحت مثال تفرد الراوي بزيادة في سند الحديث. تفرد الراوي بإبدال راو في الإسناد. وصورته: أن يكون الحديث مروياً عن شيخ على وجهٍ، ويأتي أحد من رواة هذا الحديث فيرويه عن هذا الشيخ فيغير في إسناده، ويرويه على وجه لم يذكره به الآخرون. فيذكر الطبراني الإسناد الغريب، وينص على موضع المخالفة، ويذكر من تفرد به من الرواة، ثم يذكر الإسناد المحفوظ. مثاله: ما أخرجه الطبراني في الأوسط"إنه سيكون عليكم أمراء..... الحديث» هذا الحديث أخرجه أبو يعلى الموصلي (5902) من طريق أبي المغيرة ، و ابن حبان (6660) من طريق الوليد – كلاهما (أبو المغيرة، والوليد) عن الأوزاعي عن الزهري، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة. ورواه مسلمة بن علي عن الأوزاعي والزبيدي -كلاهما- من حديث سالم عن أبي هريرة، كما أخرجه الطبراني برقم 398. فخالفهما في السند، وجعله من حديث سالم عن أبي هريرة، ومسلمة بن علي متروك، قال البخاري: منكر الحديث عن الأوزاعي . فذكر الطبراني الحديث بإسناد غريب، ثم بين تفرد الراوي، ومخالفته لغيره في الإسناد، وذكر الإسناد المحفوظ، حيث قال: "لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي عن الزهري عن سالم إلا مسلمة ، وروى المعافى بن عمران وغيره عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة، عن الزهري، عن أبي سلمة" . 3- تفرد الراوي بإسنادٍ عن شيخ معين. وصورته: أن يكون الحديث معروف عن شيخ بطرق معلومة، فيأتي أحد من رواة هذا الحديث فيرويه عن هذا الشيخ بطريقٍ يتفرد به، لم يروه الآخرون بهذا الطريق عن هذا الشيخ. ومثاله: ما رواه الطبراني في وجوب غسل الجمعة قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» . ثم بين الطريق الغريب، ونص على من تفرد به، حيث قال: "لم يرو هذا الحديث عن أسامة بن زيد إلا زين بن شعيب، تفرد بها عبد الأعلى". هذا الحديث رُوى عن صفوان بن سليم بطرق كثيرة، رواه جماعة من المحدثين عن سفيان عن صفوان بن سليم، وكذا رواه كثير من الناس عن الإمام مالك عن صفوان بن سليم، ورواه يعقوب الدورقي ومحمد بن هشام عن أبي علقمة عن صفوان بن سليم، لكن من طريق أسامة بن زيد عن صفوان بن سليم لم يروه إلا زين بن شعيب، تفرد به عبد الأعلى، كما قال الطبراني. فهذا الحديث وقع التفرد في أثناء سنده عن شيخ معين، لأنه روى جماعة عن صفوان بن سليم، لكن رواية أسامة بن زيد عن صفوان لم أجده إلا من طريق زين بن شعيب. فبين الإمام الطبراني الطريق الغريب بأن الحديث لم يرو عن أسامة إلا زين بن شعيب، يعني يريد أن الحديث روى عن صفوان بطرق أخرى لكن من طريق أسامة لم يروه إلا زين بن شعيب، والراوي المتفرد به هو عبد الأعلى. 4- تفرد أهل بلد برواية حديث. إن الحديث إذا رُوى بسند، ورجاله من بلد واحدٍ، ولا يعرف الحديث إلا من رواة ذلك البلد، فيقال: تفرد به أهل بلد، وهذا التفرد قد يكون في الغريب المطلق بأن يكون التفرد في أصل سنده ثم يستمر إلى طبقات بعده، وقد يكون في أثناء سند الحديث بأن يتفرد بعض رواتهم عن شخص معين بكلمة في متن الحديث أو في سند الحديث بزيادة رجل أو إسقاط راو، ثم يستمر عنه هذا التفرد في طبقات أخرى، وكلهم من بلد واحد. مثاله: حديث عبد الرحمن بن عوف "الهجرة هجرتان" . ما أخرجه الطبراني من طريق إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن مالك بن يخامر، عن عبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وبين وجه الغرابة فيه بقوله: "لا يروى عن عبد الرحمن بن عوف إلا من هذا الوجه". قلت: أخرجه الإمام أحمد (1671)، والبزار في مسنده (1054)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2635) من طريق إسماعيل بن عياش، وهو شامي ثقة عن أهل بلده، ورواه هذا عن أهل بلده ضمضم بن زرعة، وفيه كلام يسير، قال ابن حجر: "صدوق يهم" . وذكر الألباني هذا الحديث في "الإرواء"، وقال: "وهذا إسناد شامي حسن، رجاله كلهم ثقات، وفي ضمضم بن زرعة كلام يسير" . فهذا تفرد أهل بلد، والحديث لا يعرف إلا بهذا الإسناد الشامي، لكن لم يظهر من كلام الطبراني التنصيص على هذا القسم من التفرد، بل ذكر فيه التفرد كما يذكر في الغريب المطلق. المبحث الثالث: حكم التفرد الذي وقع عند الطبراني في كتابه المعجم الأوسط التفرد ليس بعلة في حد ذاته، لكنه كاشف عن العلة، قد يكون من الثقة، وقد يكون من الضعيف، ليس هناك كلي عام لقبول التفرد أو رده، بل ينظر في كل تفرد مستقلا من دون حكم كلي عام شامل، لكن الضابط العام لقبول التفرد وردّه يدور حول مظنّة الخطأ الناتجة عن التفرد، لأن الأصل في الحديث: الشهرة والانتشار خاصة في عصر انتشار الرواية كالقرن الأول والثاني والثالث الهجري( )، ويترك حديث الرجل إذا أُتهم بالكذب، وأكثر الغلط، وكذا إذا روى عن المعروفين مالا يعرف، كما قال شعبة حينما سئل . وقال ابن الصلاح: "إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط، كان ما انفرد به شاذا مردودا، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فينظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه كما فيما سبق من الأمثلة. وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارما له مزحزحا له عن حيز الصحيح" . وأما الإمام الطبراني رحمه الله فالتفرد في كتابه على أنواع مختلفة، كما بينت بعض صوره في المبحث الثاني، لكنه لم يصرح على قبوله أو رده، لكن يفهم من صنيعه أنه لا يقبل التفرد الذي فيه المخالفة، لأنه يذكر التفرد الذي فيه المخالفة، ثم يذكر موضع التفرد، وينص على من تفرد به، ثم يذكر الإسناد المحفوظ عنده، فيعرف من هذا أنه لا يقبل التفرد الذي فيه المخالفة. وأما التفرد بدون المخالفة، فهو يذكر الإسناد الغريب، ثم يصرح بغرابته بعد إيراد الحديث ويصرح على الراوي الذي تفرد به، ثقة كان أو ضعيفاً، وأعم من أن يكون التفرد في طبقات متقدمة، أو طبقات متأخرة، ولم يصرح على قبوله أو رده، ويعتذر له بأنه جمع في كتابه غرائب شيوخه، وفرائده كما بين في مقدمة كتابه، ولم يهتم بجمع الأحاديث المردودة من الغرائب، بل جمع فيه كل غريب عن شيوخه. ثم اطلعت بعد دراستي لهذا الكتاب على أن الكتاب ليس بمصدر المناكير، والأحاديث المردودة، والآثار الضعيفة فقط، بل يوجد فيه كثير من الأحاديث الصحيحة والحسنة. فأذكر بعض الأمثلة ليتضح به أنواع التفرد من حيث القبول والرد في كتابه المعجم الأوسط. • تفرد الثقة بدون المخالفة. بأن يروه ثقة، ولا يكون فيه المخالفة، بأن يكون الحديث غريبا، لم يروه غيره من المحدثين، فهذا مقبول يحتج به. مثاله: "يعق عن الغلام، ولا يمس رأسه بدم". فبين الطبراني فيه التفرد، بأنه لم يرو عن أيوب بن موسى إلا من طريق عمرو بن الحارث، تفرد به ابن وهب. قلت: عبد الله بن وهب ثقة، ذكره ابن حجر في التقريب، وقال: "ثقة حافظ عابد" . ومع ذلك لم ينفرد به بل تابعه رشدين بن سعد كما أخرج أبو نعيم في معرفة الصحابة (4775). تفرد به عمرو بن الحارث، وهو ثقة، كما قال ابن حجر: "ثقة فقيه حافظ" . فحديثه صحيح محتج به، مع أنه غريب، لم يروه غيره، لكن تفرد به ثقة. • تفرد الثقة مخالفا لما رواه الثقات. بأن يرويه ثقة، وتفرد به هذا الراوي الثقة، ومع أنه مخالف لما رواه الثقات، فيقال له: الشاذ، لايقبله العلماء، لأن عدم الشذوذ شرط من شروط الصحة في الحديث. مثاله في المعجم الأوسط: حديث وائل بن حجر قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ركع، فوضع يديه على ركبتيه" . مدار إسناد الحديث على عاصم بن كليب، أخرجه الطبراني من طريق أبي عوانة، عن عاصم بن كليب عن عبد الجبار، عن أبيه وائل. ورواه شعبة، عبد العزيز بن مسلم، قيس بن الربيع، وعبد الواحد بن زياد (أربعتهم ) عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر. فتفرد أبو عوانة بذكر عبد الجبار في الإسناد، وهو ثقة، وثقه الذهبي، وقال: الحافظ، الثبت، محدث البصرة . لكنه خالف من هم أوثق منه، وأكثر عدداً، فروايته شاذة مردودة. • تفرد الصدوق. تفرد الصدوق مقبول إذا لم يخالف غيره، بشرط أن لايستمر إلى طبقات متأخرة، وكذا لا يكون عن شيخ مكثر الذي لم يرو عنه الثقات من أصحاب ذلك الشيخ. وهو موجود في المعجم الأوسط كما أخرجه الطبراني من طريق معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم «حبس رجلا في تهمة، فكلم فيه فخلى سبيله» . فذكر الطبراني موضع التفرد فيه بأنه لم يرو عن بهز بن حكيم إلا معمر. وبهز بن حكيم صدوق، كما قال ابن حجر . وقبل العلماء حديثه هذا مع تفرده، وقال الترمذي: "حديث حسن" . وذكره الألباني في "الإرواء"، وقال: "وإنما هو حسن فقط للخلاف المعروف في بهز بن حكيم" . • تفرد الصدوق عن الشيخ المشهور المكثر. بأن يتفرد الصدوق عن الشيخ المشهور، ولم يرو عنه الآخرون من أصحاب هذا الشيخ، مع أنهم ثقات، فهذا محل للتعليل، إذا لم يكن له الاعتناء بأحاديث هذا الشيخ. مثاله في المعجم الأوسط: حديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا عدوى، ولا هام، ولا صفر" أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (204) من طريق عبد الله بن نافع عن مالك بن أنس عن المقبري عن أبي هريرة. فأعله الطبراني بتفرد ابن نافع عن مالك. ولم أجده من حديث سعيد المقبري إلا بهذا الإسناد، وعبد الله بن نافع ثقة في كتابه ولين في حفظه، ومع ذلك تفرد به عن مالك بن أنس، وهو إمام في الفقه، والحديث، و مشهور، ومكثر، وله تلاميذ كثير، وأصحاب ثقات، لكن لم يرو عنه أحد من تلاميذه إلا هذا ابن نافع، وليس له اعتناء بحديثه، وهو ثقة في كتابه، لكنه لين في حفظه، كما قال الحافظ ، فكيف يطمئن له القلب، فمن أجل هذا لا يقبل العلماء التفرد عن مثل هذا. وأما الحديث فرواه الناس من غير هذا الوجه عن أبي سلمة عن أبي هريرة. فعرف من هذه الأمثلة أن الإمام الطبراني جمع في كتابه كثير من أنواع التفرد، وبين فيه التفرد، ووضحه، لكنه لم يكتف بإيراد تفرد الضعيف، أو تفرد المردود، بل ذكر في كتابه كل ما تفرد به الراوي، ثقة، كان أو ضعيفا، صدوقا، كان أو لينا، في طبقات متقدمة كان، أو في طبقات متأخرة، فينبغي للقاري أن يجتهد في معرفة حكم الحديث الذي أورده الطبراني في كتابه، وذكر فيه التفرد، ولا ينفر عن الحديث الذي يجده في المعجم الأوسط حتى يحققه ويبحث حكمه، لأن في أحاديثه يوجد الصحيح، والحسن، والضعيف بجميع أقسامه. خاتمة البحث وفيها أهم النتائج الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: أخيرا أذكر بعض أهم النتائج وهي: 1. عظم اهتمام الأئمة النقاد من علوم الحديث في تفتيش الأسانيد، وكشف العلل. 2. مكانة الإمام الطبراني فقد كان له يد طولى في علم علل الحديث. 3. إن التفرد من أهم وسائل التي يكشف عن العلة في الحديث. 4. إن المعجم الأوسط مصدر كبير للأحاديث الغريبة. 5. إن الإمام الطبراني رحمه الله يذكر التفرد في الأحاديث وينص على من تفرد به، وعمن تفرد به، لكن لا يذكر ترجمة الراوي، ولو كان كذابا ودجالا، وكذا لو كان ثقة ثبتا، ومعروفاً بالعدالة. 6. إذا كان في سند الحديث مخالفة الراوي، فيذكره الطبراني، ويرجح فيه أحياناً. 7. وإذا تفرد الراوي بشيء في متن الحديث، فهو يصرح على من تفرد به من الرواة، ولكن لايصرح على شيئ في متن الحديث من تفرد الراوي أو مخالفته لغيره من الرواة. 8. إن كل ما ذكره الطبراني فيه التفرد لا يحكم بضعف جميعه، بل يوجد فيه الحسن، والصحيح. 9. وكذا يوجد في كتابه جميع أنواع الضعيف، حتى الموضوع والمتروك، لكنه لا يبين حكم الحديث، من حيث القبول، والرد. 10. وبعض الأحاديث أعله الطبراني بالتفرد في موضعٍ، ويوجد له التوابع، يكون التفرد فيه في موضع آخر، وتارة لا يكون فيه التفرد أصلا. وصلى الله على سيدنا محمد.